الثلاثاء، 26 يناير 2010

سي أو بي 15... كوبنهاجن... 2



مرحبا بكم أيها السَّيدات والسَّادة، كنتُ قد وعدتكم أن أكون مراسلكم من العاصمة الدنماركية كوبنهاجن، وأخبركم عما يتمخض عنه "مؤتمر كوبنهاجن لتغير المناخ" من قرارات مهمة قد يكون لها تأثيرات كبيرة على كوكب الأرض، وعلى البشرية بصفة عامه، كنت أود أن أكتب لكم الأخبار من هناك بصفة يومية وعلى شكل تدوينات أنشرها يوميا، ولكن للأسف الشديد لم أتمكن من الوفاء بوعدي لكم، وذلك يعود لعدة أسباب سأخبركم بها لاحقا، فآثرت أن أكتب الموضوع كاملا وأنشره على حلقات عندما أعود إلى عمان...

٭٭٭

كغالبية المهندسين الذين يعملون في تصميم المباني وخدماتها، كنت أتأمل التصميم الجميل لسقف القاعة في مطار كوبنهاجن الدولي وما يحتويه من أنظمة التكييف والتهوية ومكافحة الحرائق، تعتبر عادة التحديق في المباني إحدى مساوئ أو عيوب مهنتنا والتي تلازمك طوال حياتك، فما أن تدخل مبنى لأول مرة حتى تبدأ في التحديق بالمبنى مما يسلبك متعة الاستمتاع به، أذكر أنَّ زميلاً لي يعمل كخبير تصميم لمحطات التبريد الضخمة (District Cooling Plant) أخبرني يوما أنه كان يتابع أحد أفلام الحركة على شاشة التلفزيون، حيث كان البطل ملاحق من قبل مجموعة من الأشرار، فيفر البطل ليختفي في غرفة المضخات، فنسي زميلي الفلم تماما وهو يحدق في المضخات العملاقة محاولا تقدير سعتها ومقدار الضغط التي تتحمله...

"أتمنى لك إقامة طيبة في الدنمارك"

سمعت هذه العبارة من موظف الجوازات اللطيف في مطار كوبنهاجن الدولي بعد أن انتهى من فحصه الدقيق جدا لجواز سفري وتأكد من سلامة الفيزا ومن تطابق الصورة الموجودة في الجواز مع وجهي، فأعلن انتهاء الإجراءات وسمح لي بالانصراف، فانصرفت مسرعا - خشية أن يستدعيني مرة أخرى ليفحص جوازي بالمجهر الالكتروني أو يطلب تحليل بصمتي الوراثية - نحو قاعة الحقائب والتي تحتوي على نظام إرجاع حقائب المسافرين.

٭٭٭

أمشي في قاعة القادمين وأنا أدفع عربتي التي تحتوي على حقيبة ملابسي، وكمبيوتري المحمول، وحقيبة اليد التي دائما ما أحمل فيها كتاباً وقلم حبر - والذي غالباً ما أستعمله في تعبئة طلب الفيزا فقط - ودفتر صغير وبعض الأغراض التي اشتريتها من السوق الحرة، كان من المفترض حسب الإيميل الأخير الذي استلمته من ميغيت (Merete) أن تقوم هي باستقبالي في المطار، الأمر الذي أجده غريبا بعض الشيء، حيث أنه كان من الأسهل والأجدى إرسال سائق من الشركة، عوضا عن إضاعة وقت خبيرة في مجال البيئة في أمر بسيط كهذا...

أتلفَّت ذات اليمين وذات اليسار وأنا أدفع العربة، أحاول أن أخمن كيف سيكون شكل هذه الميغيت، هل هي هذه الشمطاء الخمسينية الواقفة تدخن سيجارتها هناك، أم هي تلك العجوز المتصابية ذات الشعر الأشقر المنكوش والقميص الذي يكشف من الصدر أكثر مما يخفي، ندمت في نفسي إنني لم أهتم بالبحث عن صورتها في موقع الشركة الإلكتروني... وما زلت أدفع عربتي وأنا شارد الذهن تماما، وفجأة انتبهت على صرخة هائلة لأجدني وقد اصطدمت برجل أوروبي ضخم أشبه بالديناصور وأصبته في ساقه بمقدمة عربة الأمتعة، اقتربت منه قائلا:

- آسف يا سيدي ولكنني كنت شارد الذهن ولم أرك...

- بحق الجحيم... ما الذي فعلته؟؟... لم تراني!!... هل أنت أعمى؟؟...

ثم كالديناصور الهائج قام بمد يده لإعطائي نظَّارته الطبية وقال لي:

- إنْ كُنْتَ أعمى فأستعمل هذه...

تجاهلت يده الممدودة، وقلت له محاولاً السيطرة على أعصابي:

- لقد اعتذرتُ لكَ فلا داعي للوقاحة، وإنْ كنتَ قد تأذَّيتَ فأنا على استعداد لنقلك لأقرب مستشفى والتكفل بمصاريف العلاج...

يبدو أنَّ العبارة التي قلتها كانت هي الشعرة التي قصمت ظهر هذا الديناصور، فأحمرَّ وجهه وعيناه، وكشر عن أنيابه - ألم أرى هذا المشهد من قبل في الفلم الأمريكي الشهير الحديقة الجوراسية؟؟!! - وصرخ في وجهي قائلاً:

- سحقا لك... ولتذهب للجحيم، و.....، وأنت.....، يا ابن......،......

كانت عبارته تحتوي على أقذع أنواع السباب وأحطَّها، والتي لن أذكرها هنا حتى لا أجرح مشاعر القرَّاء والقارئات، وبسبب وجود بعض القرَّاء الذين تقل أعمارهم عن 18 سنة...

عند هذه النقطة كان تركيز هرمون الإدرانالين (Adrenaline) في دمي في أعلى مستوياته، فقررت أن أحل الخلاف مع هذا الديناصور بأعنف طريقة ممكنه، كورت قبضتي واقتربت منه عازماً على تحطيم وجهه وربما ركبتيه أيضاً...

وفي اللحظة التي اقتربت من الاشتباك معه، تدخلت فتاة من الحضور لحل النزاع على طريقة "أنتم رجال ناضجون، وكان هذا مجرد حادث، وحصل خير"، هدأ الديناصور الأوروبي، وتوقفت أنا مكاني، فسحبتني الفتاة من معصمي ودفعت العربة مبتعدة عن الديناصور الغاضب، ولما ابتعدنا بما فيه الكفاية مدت لي يدها مصافحة:

- هاي ناصر... أنا ميغيت (Merete)... يسعدني لقاؤك، وأعتذر عن التأخير...

انتابتني دهشة عارمة، ولكنني قلت لها:

- هاي ميغيت، صدقيني لم أكن سعيداً بلقاء أحد، كسعادتي بلقائك اليوم...

تأملت ميغيت بشعرها الذهبي الذي يختفي نصفه تحت قبعة صوفية وعينيها الزرقاوين الواسعتين، كانت تبدو كفتاة شابة في منتصف العشرينات من العمر، ترتدي معطفاً ثقيلاً يصل حتى أسفل الركبة حيث يبدأ الحذاء الجلدي ذو الرقبة... ابتسمتُ وأنا أتذكر انطباعي الأولي عنها بعد أنْ اتصلت بي في عمان فظننت إنها سيدة عجوز...

قالت ميغيت وهي تتأملني بدورها:

- تأخرتُ عليك خمس دقائق فأجدك على وشك الاشتباك مع أحدهم!! ماذا لو تأخرت عليك نصف ساعة، أو ساعة كاملة؟؟ ماذا كنت ستفعل؟؟

قلت لها ساخراً:

- ربما ستجدينني قد ساهمت في انقراض أحد أنواع الديناصورات والتي يبدو لي أنها لم تنقرض بعد...

ابتَسَمَتْ لعبارتي وقالت:

- يبدو إنه أنجليزي، والإنجليز لا يتميزون باللطف مع الغرباء إطلاقاً، خصوصا مع الغرباء الذين يجعلون سيقانهم تنزف، ألم تنتبه إلى كاحله الذي كان ينزف؟؟

- ولكنني لم أقصد ذلك...

- أعرف إنك لم تكن تقصد، ولكن كان عليك أن تتجاهله وتمضي في طريقك، لا أن تشتبك معه...

- أنا شخص قصير الفتيل وكنت أرغب بتلقينه درساً قاسياً...

نَظرَتْ إلي وقالت ضاحكه:

- من وجهة نظر أخرى لا أدري كيف ستبدأ حضور مؤتمراً عن البيئة، بمحاولة المساهمة في انقراض ديناصوراً إنجليزياً...

ضحكت وأنا أتخيل نفسي وأقد اشتبكت فعلا مع ذلك الوغد العملاق...

وصلنا لباب قاعة القادمين التي تقود إلى خارج المطار فتوَقفت لأرتدي معطفي الثقيل وأضع قبعة الصوف فوق رأسي، ولبست قفازاتي الصوفية... فتحَتْ ميغيت الباب فدفعْتُ العربة وهي تقول لي:

- عموما ً...مرحباً بك في الدنمارك...

٭٭٭

تقع مملكة الدنمارك في شمال أوروبا وهي أحد الدول الإسكندنافية، تعتبر الدنمارك من الدول الصغيرة من حيث المساحة (43,000 كيلو متراً مربعاً تقريبا) وعدد سكانها 5.5 مليون نسمة، تتألف الدنمارك من جزيرتين هما زيلاند (Zealand) في الشرق حيث توجد العاصمة كوبنهاجن، وفون (Funen) في المنتصف، وشبه جزيرة جوتلاند (Jutland) في الغرب والتي تتصل بشمال ألمانيا.

يتبع مملكة الدنمارك جزر فارو (Faroe Islands) وجزيرة جرينلاند (Greenland) والتي ستسحق اسمها عن جدارة مستقبلاً إذا لم تجد البشرية حلاً لمعضلة الاحتباس الحراري.

بحسب موسوعة ويكيبيديا باللغة الإنجليزية فأنّ الدنمارك صُنفت "كأسعد مكان على وجه الأرض" بين العامين 2006 و 2008 بناءاً على مستويات المعيشة والصحة والتعليم، كما صنفت في 2009 كأكثر الدول أمنا بعد نيوزيلندا، وصنفت أيضا في 2008 كأقل الدول فسادا بعد السويد ونيوزيلندا (متى ستصنف عمان كأقل الدول فسادا يا ترى؟؟).

تقول موسوعة ويكيبيديا باللغة العربية: "الشعب الدنماركي هو عموما شعب محافظ، محب للمزاح وللرحلات ولكن في نفس الوقت شعب يحب العمل، يشار إليهم بأنهم شعب متحضر جدا، يصفهم البعض أيضا بأنهم مغرورون".

رأيي الخاص ومن خلال تعاملي مع بعض أفراد الشعب الدنماركي لعدة سنوات أن الغالبية منهم على قدر كبير من التواضع، بل أنهم يعتبرون التواضع والتبسط مع الناس ورفع الكلفة قيمة أخلاقية مهمة جداً.

٭٭٭

أوصلتني ميغيت بسيارتها إلى بيت الضيوف (Guest House) التابع للشركة والذي يقع قريبا من مكتب الشركة الرئيسي في منطقة لنْجبي (Lundby) في العاصمة كوبنهاجن، أخبرتني إنهم قاموا بتوصيل طبق استقبال حتى أتمكن من مشاهدة التلفزيون العماني، وأن هناك ملصقاً في غرفتي يوضح اتجاه القبلة، شكرتها وذكَّرتها بأنني سأبقى هنا لمدة أسبوعين فقط فلا داعي لكل هذا...

تمنت لي ميغيت ليلة طيبة وأخبرتني بأنَّ سائقاً سيمر غداً على جميع المهندسين المتواجدين في بيت الضيوف لينقلهم إلى بيلا سنتر (Bella Centre) حيث ينعقد مؤتمر كوبنهاجن، وستلتقي بنا هناك...

٭٭٭

لماذا وُصفَ مؤتمر كوبنهاجن بأنَّه "أتفاق مناخي فارغ المضمون"؟

ما التحديات التي واجهت مؤتمر كوبنهاجن (COP15) ؟

هذا ما سنعرفه في الحلقة الثالثة من "سي أو بي 15... كوبنهاجن..."

تابعوني ولكم جزيل الشكر





هناك 4 تعليقات:

  1. يا عيني على التشويق
    ننتظر الجزء الثالث بِفارغ الصبر ..


    //


    كان زين لو ضربته هذا الديناصور وتستوي الضرابة في المطار خخخخ

    عُمومـاً مُتابعين لك ومنتظرين لجديدك بس لا تطوّل علينا

    ردحذف
  2. ناصر
    اسلوبك في السرد جميل يشد القارئ، كما يتمتع بحس فكاهة عالي
    ...................
    اضحكتني طريقة نطقهم للحروف، ميجيت يكتبوها ميريت، ولنجدي يكتبوها لندي
    ................
    في انتظار الحلقة القادمة
    تحياتي

    ردحذف
  3. واجد جَميل .. بجد ..

    ننتظر الجزء القادم ..

    ردحذف
  4. أشكر جميع الأعزاء الذين تجشموا عناء التعليق على الموضوع...
    سعيد جدا أنْ راق لكم...

    ردحذف

بحث هذه المدونة الإلكترونية