السبت، 30 يناير 2010

سي أو بي 15... كوبنهاجن... 3



تلقيت إيميلاً من قارئة المدونة العتيدة "شيخة" والتي كان لها بعض الملاحظات في تدوينه سابقة عمَّا أسميته أنا آنذاك "بثقافة العَيْب" إن كنتم تذكرون... تقول "شيخة" في إيميلها: "إذا أردت أن تتحدث عن المواضيع البيئية أو موضوع القيادة أو أي موضوع آخر، فلماذا لا تتحدث عنها بطريقة مباشرة وتكف عن إقحام مغامراتك الشخصية وقصة حياتك في الموضوع؟ وما أدرانا أن هذه الأحداث والمغامرات واقعية أو هي من نسج الخيال؟"...

٭٭٭

عزيزتي شيخة أعتقد أن المسألة ليست كما تتخيلينها، فعندما قررت الكتابة في هذه المدونة حاولت قدر المستطاع أن أكتب بأسلوب غير ممل يجعل القارئ متحمساً لإكمال القراءة حتى نهاية الموضوع، وبعد أنْ نشرت أول ثلاثة مواضيع وبعثت وصلة المدونة لأصدقائي وزملائي المقرَّبين، وسألتهم عمَّا راق وما لم يرق لهم، كانت معظم الإجابات تقول أن الموضوع الذي يحمل عنوان "عن القيادة أحكي لكم" قد حظي بأقل نسبة قراءة وأن قلة قليلة فقط هم الذين أكملوا قراءة الموضوع حتى نهايته، السبب في ذلك من وجهة نظري يعود إلى أنني كتبت الموضوع بأسلوب أكاديمي جاف وتقريري بحت يفتقر للحياة التي تبعثها فيه وجود الشخوص والأماكن والأحداث، إذا فالمسألة هي ليست مجرد "إقحام مغامراتي الشخصية وقصة حياتي في الموضوع"، فمغامراتي وقصة حياتي الشخصية لا أعتقد إنها بتلك الأهمية، كما لا أعتقد أنها تهم أحدا غيري، المسألة باختصار شديد هي كالتالي:

كيف أكتب عن العلم بأسلوب أدبي يجذب القرَّاء ولا يثير مللهم؟ كيف أحقق هذه المعادلة الصعبة؟، بصراحة لا أستطيع الجزم أنني نجحت في ذلك حتى الآن، وأترك الإجابة لرأي القرَّاء الكرام، ولكني آمل أن أنجح مستقبلاً...

بالنسبة لسؤالك الثاني يا "شيخة"، فيسرني أن أقول أنني لا أطالب القرَّاء الكرام أن يصدقوا كل ما أكتب عنه من أحداث وأماكن وشخصيات، ولكني أطالبهم بفهم الفكرة الرئيسية خلف الموضوع، بالنسبة لي الأحداث والشخصيات والأماكن هي مجرد خلفية للفكرة الرئيسية التي أتكلم عنها، ومهمة هذه الخلفية هي إعطاء بعض التشويق لما أكتب ومنع الملل فقط، الذي أريد أن أقوله بكلمات أخرى أنه ربما ذهبت لليابان يوماً في مهمة عمل وربما لا، ربما التقيت بمن ذكرتهم وربما لمْ ألتق بهم، ربما ذهبت إلى التشيك يوما في مؤتمر حول "المواد المستنفذة لطبقة الأوزون" وربما لا، ربما كنت الشهر الماضي في الدنمارك وربما كنت في مكان آخر، هل يشكل هذا فارقاً؟ ما يهمني هنا، وأفترض أنه يهم القرَّاء أيضا هو الفكرة وحسب...

٭٭٭

في صبيحة افتتاح مؤتمر كوبنهاجن لتغير المناخ (COP15)، وبعد أن أخذت قرابة الساعة في محاولة إصلاح ربطة العنق بطريقة تجعلني فاتناً، أخذنا سائق الشركة إلى بيلا سنتر(Bella Centre) في وسط كوبنهاجن، كان الزحام خانقا ورجال الشرطة في كل مكان، حيث حشدت الشرطة الدنماركية أكثر من نصف رجالها للمؤتمر، كما كان هناك الكثير من المتظاهرين والذين يحملون اللافتات المطالبة بإيجاد حل لمشكلة تغير المناخ بفعل الإنسان...

كانت الإجراءات الأمنية مشددة جدا عند دخولنا قاعة المؤتمر ولا ألومهم في ذلك، ولكن الأمور كانت سريعة بالنسبة لنا كوننا نعمل في مؤسسة دنماركية... في داخل القاعة التقيت بميغيت وبعض الزملاء الآخرين الذين عملت معهم يوما في عُمان، القاعة كانت تغص بآلاف الحضور من مختلف الجنسيات والمهن، لم أر في حياتي كل هذا العدد من البشر في قاعة واحدة.

بدا المؤتمر بكلمة ألقاها رئيس الوزراء الدنماركي السيد لارس راسموسن (Lars Rasmussen)، ثم ألقى عمدة كوبنهاجن كلمته، وتلاه بعد ذلك رئيس الـ (IPCC)، ثم أمين عام الـ (UNFCCC)، ثم رئيس مؤتمر الـ (COP14)، و أختتم البرنامج الافتتاحي بكلمة ألقتها السيدة كوني هدجارد (Connie Hedegaard) رئيسة الـ (COP15)، أحببت أن أذكر هذه التفاصيل لأدخلكم أعزائي القرَّاء والقارئات في جو المؤتمر وحتى تعلموا مقدار المعاناة التي يتجشمها من يحضرون هذه المؤتمرات، طبعا بنهاية كلمة الوزيرة الدنماركية كنت على وشك أن أنفجر من الملل وأيضا بسبب ربطة العنق التي على ما يبدو قد شددتها حول عنقي أكثر من اللازم، أعتقد أن الذي أخترع ربطة العنق يجب أن يحاكم بتهمة ارتكاب جرائم ضد الإنسانية، بنهاية اليوم بدأت أتساءل ما الأناقة في أن يلف المرء حبلا حول عنقه؟؟!!

٭٭٭

لقد وُصفَ مؤتمر كوبنهاجن - الذي شاركت فيه 192 دولة - بأنَّه "أتفاق مناخي فارغ المضمون"، ووُصفَ أيضا بأنَّ "الاتفاق دون الآمال في كوبنهاجن"... السبب في ذلك يعود إلى أن المؤتمر لم يخرج بقرارات ملزمة لجميع الأعضاء للحد من انبعاث الغازات الدفيئة.

كان المؤتمر يهدف إلى خفض نسبة الغازات الدفيئة إلى النصف بحلول عام 2050، وسيقع الجزء الأكبر من هذه المهمة على عاتق الدول الصناعية كأمريكا التي تعتبر أكبر اقتصاد في العالم وثاني أكبر مَصْدر لانبعاث الغازات الدفيئة بعد الصين... ويبدو لي أن الثقة ليست متبادلة بين هذين العملاقين الاقتصاديين، حيث طالب الكونجرس الصين بخفض انبعاث الغازات الدفيئة كي تقوم أمريكا بالتخفيض بدورها، بصيغة أخرى "إذا قمتم بتقليل انبعاث الغازات الدفيئة سنقوم بتقليلها وإلا فليحترق العالم ولتزأر العاصفة"... وصرَّح أوباما أيضا قائلاً "إذا نظرت لدولة كالهند حيث يوجد مئات الملايين من الناس بدون كهرباء، ومئات الملايين لا يزال يعيشون في فقر مدقع، وعندما يُصرِّح المسئولون الهنود بأنهم سيقومون بشكل تطوعي بخفض انبعاث غاز ثاني أكسيد الكربون بنسبة معينه، يعتبر تصريحهم هذا خطوة هائلة"...

عموما تعهدت الإدارة الأمريكية بناءاً على تصريح وزيرة خارجيتها هيلاري كلنتون بتخصيص 100 مليار دولار سنويا، لمساعدة الدول الفقيرة لتتبنى مشاريع صديقة للبيئة...

٭٭٭

دعتني ميغيت لتناول العشاء في بيت العائلة في عطلة نهاية الأسبوع، حاولت الاعتذار ولكن من يستطيع الرفض أمام إصرار وإلحاح هذه الفتاة وهي تقول لي بأن "والدها سيسر بالتعرف علي"...

تخيلت نفس الموقف يحدث في عمان، حيث سأجد الأب واقفا أمام باب المنزل وفي يده "كند" أو "أم عشر"، ويلف حول خصره "محزماً"...

أخبرتني ميغيت بأنها ستمر علي في بيت الضيوف مساء الجمعة لتقلني إلى منزل العائلة الذي يقع في شمال كوبنهاجن...

٭٭٭

من التحديات التي كانت تواجه مؤتمر كوبنهاجن (COP15) هو توقيت المؤتمر نفسه، وذلك بسبب ظروف الأزمة المالية العالمية في الوقت الراهن والتي تعصف بمعظم دول العالم، فتبنِّي مشروع ضخم كهذا وعلى مستوى عالمي يتطلب الكثير من المال حتى يستثمر في مشاريع الطاقة المتجددة، والمشاريع البيئية التي تحد من انبعاث الغازات الدفيئة...

من ناحية أخرى ستستفيد بعض الدول من مشاريع تقليل نسبة انبعاث الغازات الدفيئة عن طريق الاستثمار قي مشاريع الطاقة المتجددة، كالصين مثلا والتي يوجد بها أكبر الشركات المُصَنِّعة للتربينات الهوائية (Wind Turbine)...

بصورة عامة مشروع كهذا يتطلب الكثير من المال قد لا تتحمله ميزانية بعض الدول، ولكن عدم القيام بشيء الآن قد يقود مستقبلاً إلى عواقب وخيمة تستدعي إنفاق أضعاف المال اللازم لبدء مشاريع الطاقة المتجددة ومشاريع أخرى صديقة للبيئة.

٭٭٭

بعد حضوري لليوم الأول والثاني في مؤتمر كوبنهاجن ولأني شخص سريع الملل خصوصا وأننا نحضر المؤتمر بصفة مستمعين وليس مشاركين، قررت أن أكلم قائدي في العمل وأبحث معه إمكانية ضمي لأحد المشاريع التي تقوم بها الشركة في الدنمارك.

في اليوم التالي استطعت أقناعة بفكرتي وبدا متحمسا، فبدأت العمل مباشرة وكانت تجربه شيقة جدا استطعت خلالها التغلب على حاجز اللغة، حيث أن جميع الرسومات والمواصفات في المشروع كانت باللغة الدنماركية، ولكن الأرقام هي الأرقام وهذا ما يهمني...

لفت انتباهي عند زيارتي لموقع العمل الاحترام والتقدير الكبير الذي يلقاه العامل الدنماركي من المؤسسة التي يعمل بها ومن زملائه المهندسين وإدارة المشروع، أيضا وكما علمت من ميغيت لاحقا أنَّ راتب العامل المحترف قد يبلغ نفس راتب المهندس إنْ لم يزيد، قارن هذا بالمهانة والراتب الضئيل جدا التي يحصل عليهما العامل العماني!!...

٭٭٭

غدا تبدأ الإجازة الأسبوعية (السبت والأحد) والليلة هو موعدي على العشاء مع ميغيت في بيت عائلتها، بسبب الصقيع في الخارج - والذي ما زال ينخر في عظامي - كنت أحلم بقضاء عطلة نهاية الأسبوع في سريري الدافئ ولكن يبدو أن هذا الحلم لن يتحقق أبدا، الآن وأنا محاط بكل هذا الزمهرير أحس بالشوق لشمس عمان والتي أحيانا تشعر أنها تحرق روحك قبل جسمك...

توجهت إلى المسبح لآخذ حماما دافئا، ومن ثم سأرتدي ملابسي لأكون مستعدا عندما تأتي ميغيت في تمام الثامنة، ما يغيظني أن هذه الفتاة كالساعة السويسرية لا تتأخر أبدا عن مواعيدها...

٭٭٭

في تمام الثامنة مساءا خرجت من غرفتي وتوجهت لغرفة الجلوس لأجد ميغيت تنتظرني وهي تتابع باهتمام مسلسلاً عمانياً يتم عرضه على قناة عمان (أعتقد أنه مسلسل درايش.. لست متأكدا)...

- هاي ناصر...

- مرحبا ميغيت...

كان المشهد يمثل بيداراً عمانياً، يحمل هيباً في يده ومسحاةً في اليد الأخرى، بينما يتدلى حبل طلوع أو حابول على كتفه، وفي خلفية المشهد هناك ثلاثة بيادير يحمل كل أحد منهم جازاً، بينما بيدارة عمانية تحاول إقناع ولدها البيدار الصغير بأن يساعدها لتحمل على رأسها وقراً من سعف النخيل اليابس (كل هذا العدد من البيادير في مشهد واحد!!!)...

كان أحد البيادير يكلم صاحبه بلغة ولهجة أقل ما يقال عنها إنها سوقية ومبتذله مع تحريك يديه في الهواء بطريقة مفتعله ومبالغا فيها، على غير عادة القرويين العمانيين الطيبين والذين يتصفون بدماثة الأخلاق والتهذيب...

سألتني ميغيت قائلة:

- ما الذي يتكلمون عنه؟ يبدو الموضوع مثيراً جداً...

أجبتها قائلاً:

- لا شيء يستحق الذكر... إنه برنامج وثائقي عن الزراعة قبل النهضة... أنا جاهز فلنذهب...

خرجنا لنستقل سيارتها وأنا أستغفر الله في سري على كذبي على هذه الفتاة المسكينة، تبا للدراما العمانية...

٭٭٭

لماذا يعتبر العرب من أكبر الخاسرين في مؤتمر كوبنهاجن؟

ما هي التجربة المصرية والإماراتية في مجال الطاقة المتجددة؟

هذا ما سنعرفه في الحلقة الرابعة والأخيرة من "سي أو بي 15... كوبنهاجن..."

تابعوني ولكم جزيل الشكر










الثلاثاء، 26 يناير 2010

سي أو بي 15... كوبنهاجن... 2



مرحبا بكم أيها السَّيدات والسَّادة، كنتُ قد وعدتكم أن أكون مراسلكم من العاصمة الدنماركية كوبنهاجن، وأخبركم عما يتمخض عنه "مؤتمر كوبنهاجن لتغير المناخ" من قرارات مهمة قد يكون لها تأثيرات كبيرة على كوكب الأرض، وعلى البشرية بصفة عامه، كنت أود أن أكتب لكم الأخبار من هناك بصفة يومية وعلى شكل تدوينات أنشرها يوميا، ولكن للأسف الشديد لم أتمكن من الوفاء بوعدي لكم، وذلك يعود لعدة أسباب سأخبركم بها لاحقا، فآثرت أن أكتب الموضوع كاملا وأنشره على حلقات عندما أعود إلى عمان...

٭٭٭

كغالبية المهندسين الذين يعملون في تصميم المباني وخدماتها، كنت أتأمل التصميم الجميل لسقف القاعة في مطار كوبنهاجن الدولي وما يحتويه من أنظمة التكييف والتهوية ومكافحة الحرائق، تعتبر عادة التحديق في المباني إحدى مساوئ أو عيوب مهنتنا والتي تلازمك طوال حياتك، فما أن تدخل مبنى لأول مرة حتى تبدأ في التحديق بالمبنى مما يسلبك متعة الاستمتاع به، أذكر أنَّ زميلاً لي يعمل كخبير تصميم لمحطات التبريد الضخمة (District Cooling Plant) أخبرني يوما أنه كان يتابع أحد أفلام الحركة على شاشة التلفزيون، حيث كان البطل ملاحق من قبل مجموعة من الأشرار، فيفر البطل ليختفي في غرفة المضخات، فنسي زميلي الفلم تماما وهو يحدق في المضخات العملاقة محاولا تقدير سعتها ومقدار الضغط التي تتحمله...

"أتمنى لك إقامة طيبة في الدنمارك"

سمعت هذه العبارة من موظف الجوازات اللطيف في مطار كوبنهاجن الدولي بعد أن انتهى من فحصه الدقيق جدا لجواز سفري وتأكد من سلامة الفيزا ومن تطابق الصورة الموجودة في الجواز مع وجهي، فأعلن انتهاء الإجراءات وسمح لي بالانصراف، فانصرفت مسرعا - خشية أن يستدعيني مرة أخرى ليفحص جوازي بالمجهر الالكتروني أو يطلب تحليل بصمتي الوراثية - نحو قاعة الحقائب والتي تحتوي على نظام إرجاع حقائب المسافرين.

٭٭٭

أمشي في قاعة القادمين وأنا أدفع عربتي التي تحتوي على حقيبة ملابسي، وكمبيوتري المحمول، وحقيبة اليد التي دائما ما أحمل فيها كتاباً وقلم حبر - والذي غالباً ما أستعمله في تعبئة طلب الفيزا فقط - ودفتر صغير وبعض الأغراض التي اشتريتها من السوق الحرة، كان من المفترض حسب الإيميل الأخير الذي استلمته من ميغيت (Merete) أن تقوم هي باستقبالي في المطار، الأمر الذي أجده غريبا بعض الشيء، حيث أنه كان من الأسهل والأجدى إرسال سائق من الشركة، عوضا عن إضاعة وقت خبيرة في مجال البيئة في أمر بسيط كهذا...

أتلفَّت ذات اليمين وذات اليسار وأنا أدفع العربة، أحاول أن أخمن كيف سيكون شكل هذه الميغيت، هل هي هذه الشمطاء الخمسينية الواقفة تدخن سيجارتها هناك، أم هي تلك العجوز المتصابية ذات الشعر الأشقر المنكوش والقميص الذي يكشف من الصدر أكثر مما يخفي، ندمت في نفسي إنني لم أهتم بالبحث عن صورتها في موقع الشركة الإلكتروني... وما زلت أدفع عربتي وأنا شارد الذهن تماما، وفجأة انتبهت على صرخة هائلة لأجدني وقد اصطدمت برجل أوروبي ضخم أشبه بالديناصور وأصبته في ساقه بمقدمة عربة الأمتعة، اقتربت منه قائلا:

- آسف يا سيدي ولكنني كنت شارد الذهن ولم أرك...

- بحق الجحيم... ما الذي فعلته؟؟... لم تراني!!... هل أنت أعمى؟؟...

ثم كالديناصور الهائج قام بمد يده لإعطائي نظَّارته الطبية وقال لي:

- إنْ كُنْتَ أعمى فأستعمل هذه...

تجاهلت يده الممدودة، وقلت له محاولاً السيطرة على أعصابي:

- لقد اعتذرتُ لكَ فلا داعي للوقاحة، وإنْ كنتَ قد تأذَّيتَ فأنا على استعداد لنقلك لأقرب مستشفى والتكفل بمصاريف العلاج...

يبدو أنَّ العبارة التي قلتها كانت هي الشعرة التي قصمت ظهر هذا الديناصور، فأحمرَّ وجهه وعيناه، وكشر عن أنيابه - ألم أرى هذا المشهد من قبل في الفلم الأمريكي الشهير الحديقة الجوراسية؟؟!! - وصرخ في وجهي قائلاً:

- سحقا لك... ولتذهب للجحيم، و.....، وأنت.....، يا ابن......،......

كانت عبارته تحتوي على أقذع أنواع السباب وأحطَّها، والتي لن أذكرها هنا حتى لا أجرح مشاعر القرَّاء والقارئات، وبسبب وجود بعض القرَّاء الذين تقل أعمارهم عن 18 سنة...

عند هذه النقطة كان تركيز هرمون الإدرانالين (Adrenaline) في دمي في أعلى مستوياته، فقررت أن أحل الخلاف مع هذا الديناصور بأعنف طريقة ممكنه، كورت قبضتي واقتربت منه عازماً على تحطيم وجهه وربما ركبتيه أيضاً...

وفي اللحظة التي اقتربت من الاشتباك معه، تدخلت فتاة من الحضور لحل النزاع على طريقة "أنتم رجال ناضجون، وكان هذا مجرد حادث، وحصل خير"، هدأ الديناصور الأوروبي، وتوقفت أنا مكاني، فسحبتني الفتاة من معصمي ودفعت العربة مبتعدة عن الديناصور الغاضب، ولما ابتعدنا بما فيه الكفاية مدت لي يدها مصافحة:

- هاي ناصر... أنا ميغيت (Merete)... يسعدني لقاؤك، وأعتذر عن التأخير...

انتابتني دهشة عارمة، ولكنني قلت لها:

- هاي ميغيت، صدقيني لم أكن سعيداً بلقاء أحد، كسعادتي بلقائك اليوم...

تأملت ميغيت بشعرها الذهبي الذي يختفي نصفه تحت قبعة صوفية وعينيها الزرقاوين الواسعتين، كانت تبدو كفتاة شابة في منتصف العشرينات من العمر، ترتدي معطفاً ثقيلاً يصل حتى أسفل الركبة حيث يبدأ الحذاء الجلدي ذو الرقبة... ابتسمتُ وأنا أتذكر انطباعي الأولي عنها بعد أنْ اتصلت بي في عمان فظننت إنها سيدة عجوز...

قالت ميغيت وهي تتأملني بدورها:

- تأخرتُ عليك خمس دقائق فأجدك على وشك الاشتباك مع أحدهم!! ماذا لو تأخرت عليك نصف ساعة، أو ساعة كاملة؟؟ ماذا كنت ستفعل؟؟

قلت لها ساخراً:

- ربما ستجدينني قد ساهمت في انقراض أحد أنواع الديناصورات والتي يبدو لي أنها لم تنقرض بعد...

ابتَسَمَتْ لعبارتي وقالت:

- يبدو إنه أنجليزي، والإنجليز لا يتميزون باللطف مع الغرباء إطلاقاً، خصوصا مع الغرباء الذين يجعلون سيقانهم تنزف، ألم تنتبه إلى كاحله الذي كان ينزف؟؟

- ولكنني لم أقصد ذلك...

- أعرف إنك لم تكن تقصد، ولكن كان عليك أن تتجاهله وتمضي في طريقك، لا أن تشتبك معه...

- أنا شخص قصير الفتيل وكنت أرغب بتلقينه درساً قاسياً...

نَظرَتْ إلي وقالت ضاحكه:

- من وجهة نظر أخرى لا أدري كيف ستبدأ حضور مؤتمراً عن البيئة، بمحاولة المساهمة في انقراض ديناصوراً إنجليزياً...

ضحكت وأنا أتخيل نفسي وأقد اشتبكت فعلا مع ذلك الوغد العملاق...

وصلنا لباب قاعة القادمين التي تقود إلى خارج المطار فتوَقفت لأرتدي معطفي الثقيل وأضع قبعة الصوف فوق رأسي، ولبست قفازاتي الصوفية... فتحَتْ ميغيت الباب فدفعْتُ العربة وهي تقول لي:

- عموما ً...مرحباً بك في الدنمارك...

٭٭٭

تقع مملكة الدنمارك في شمال أوروبا وهي أحد الدول الإسكندنافية، تعتبر الدنمارك من الدول الصغيرة من حيث المساحة (43,000 كيلو متراً مربعاً تقريبا) وعدد سكانها 5.5 مليون نسمة، تتألف الدنمارك من جزيرتين هما زيلاند (Zealand) في الشرق حيث توجد العاصمة كوبنهاجن، وفون (Funen) في المنتصف، وشبه جزيرة جوتلاند (Jutland) في الغرب والتي تتصل بشمال ألمانيا.

يتبع مملكة الدنمارك جزر فارو (Faroe Islands) وجزيرة جرينلاند (Greenland) والتي ستسحق اسمها عن جدارة مستقبلاً إذا لم تجد البشرية حلاً لمعضلة الاحتباس الحراري.

بحسب موسوعة ويكيبيديا باللغة الإنجليزية فأنّ الدنمارك صُنفت "كأسعد مكان على وجه الأرض" بين العامين 2006 و 2008 بناءاً على مستويات المعيشة والصحة والتعليم، كما صنفت في 2009 كأكثر الدول أمنا بعد نيوزيلندا، وصنفت أيضا في 2008 كأقل الدول فسادا بعد السويد ونيوزيلندا (متى ستصنف عمان كأقل الدول فسادا يا ترى؟؟).

تقول موسوعة ويكيبيديا باللغة العربية: "الشعب الدنماركي هو عموما شعب محافظ، محب للمزاح وللرحلات ولكن في نفس الوقت شعب يحب العمل، يشار إليهم بأنهم شعب متحضر جدا، يصفهم البعض أيضا بأنهم مغرورون".

رأيي الخاص ومن خلال تعاملي مع بعض أفراد الشعب الدنماركي لعدة سنوات أن الغالبية منهم على قدر كبير من التواضع، بل أنهم يعتبرون التواضع والتبسط مع الناس ورفع الكلفة قيمة أخلاقية مهمة جداً.

٭٭٭

أوصلتني ميغيت بسيارتها إلى بيت الضيوف (Guest House) التابع للشركة والذي يقع قريبا من مكتب الشركة الرئيسي في منطقة لنْجبي (Lundby) في العاصمة كوبنهاجن، أخبرتني إنهم قاموا بتوصيل طبق استقبال حتى أتمكن من مشاهدة التلفزيون العماني، وأن هناك ملصقاً في غرفتي يوضح اتجاه القبلة، شكرتها وذكَّرتها بأنني سأبقى هنا لمدة أسبوعين فقط فلا داعي لكل هذا...

تمنت لي ميغيت ليلة طيبة وأخبرتني بأنَّ سائقاً سيمر غداً على جميع المهندسين المتواجدين في بيت الضيوف لينقلهم إلى بيلا سنتر (Bella Centre) حيث ينعقد مؤتمر كوبنهاجن، وستلتقي بنا هناك...

٭٭٭

لماذا وُصفَ مؤتمر كوبنهاجن بأنَّه "أتفاق مناخي فارغ المضمون"؟

ما التحديات التي واجهت مؤتمر كوبنهاجن (COP15) ؟

هذا ما سنعرفه في الحلقة الثالثة من "سي أو بي 15... كوبنهاجن..."

تابعوني ولكم جزيل الشكر





بحث هذه المدونة الإلكترونية