السبت، 12 ديسمبر 2009

كاريزما 1...


أخيراً وبعد طول انتظار، استلمت اليوم إيميلا من (بيتر إبسن) يخبرني فيه بأنَّه سعيد جدا بما قرأه، ولا مانع لديه من نشر ما كتبته ويعتذر عن التأخير في الرد بسبب إنشغاله الشديد وتواجده حالياًَ في فرع الشركة في الصين.

٭٭٭

مقدمة لابد منها:

كنا قد اتفقنا أن أحكي لكم - أيها الأخوة والأخوات - عن القيادة بأسلوبٍ ولغة بسيطين وبعيدين عن التعقيد، سأحكي لكم اليوم عن القيادة في صورة قائدٍ عرفته، قائد يتمتع بالأخلاق الرفيعة، والتواضع، وغزارة المعلومات، وقوة الشخصية، ولكن أهم ما يتمتع به هذا القائد هو "الكاريزما" والذي تجعله محط إعجاب أتباعه، ومثلاً أعلى لهم...

أظنكم - أعزائي القرَّاء والقارئات - تعلمون الآن إنني أعمل في شركة استشارات هندسية دنماركية، والدنمارك هي أحدى الدول الإسكندنافية التي تقع في شمال أوروبا وتشمل الدنمارك، والسويد، والنرويج، وفنلندا، وتتميز هذه الدول بخصائص مشابهه تجعلها وحدة جغرافية ذات خصائص مشتركة...

كثير من معاهد، ومدارس الإدارة العالمية تعتبر أسلوب القيادة الإسكندنافي (Scandinavian Leadership Style) من أفضل أساليب القيادة حول العالم، ويتميز هذا الأسلوب بالخصائص التالية:

1) احترام الموظفين أو الأتباع.

2) استعمال منهج يتميز بالشمولية، والإنسانية، والقيم الفاضلة.

3) تتميز التركيبة البنيوية للمؤسسات بالشكل المسطح، حيث تتوزع المسؤوليات والسلطات بين الأفراد، والعمل على تقوية الأفراد، بإعطائهم المزيد من المسؤوليات والاعتماد عليهم، كل هذا في بيئة تحفز الإبداع والخلاقية.

4) الثقة، والاهتمام، والعناية بالإتباع كقيم أساسية.

الآن أترككم مع بعض المشاهد القصيرة، والتي اخترتها لكم مما اختزنته ذاكرتي خلال السنوات الأربع الأخيرة، ما أريده منكم - أعزائي القراء والقارئات - أن تقارنوا أسلوب القيادة هنا - من خلال سلوك القائد- مع الأسلوب المتبع في المؤسسات التي تعملون فيها.

٭٭٭

الزمان: أواخر سبتمبر 2005

المكان: مكتبي في أحد الشركات الهندسة - مسقط

كنت غارقاً في العمل حتى النخاع، حيث إنني كنت أشرف على أحد المشاريع الذي تعثر طويلاً جداً تحت إشراف أحد زملائي المهندسين، ثم تم نقله ليكون تحت إشرافي بعد أن ذهب زميلي في أجازته الصيفية، حقيقةًًًًًََ وبعد كل هذه السنوات ما زلت لا أدري السبب الحقيقي وراء هذا، أكان تعجيزا أم ثقة مفرطة بي، وأنا المهندس الشاب الذي يمتلك القليل من الخبرة، والكثير من الإصرار، والحماس، والطموح...

عموما كنت أقول إنني كنت غارقا في العمل حتى شحمة أذني، عندما رن هاتفي المحمول فأجبته:

- ألوووه...

- هاي... إز ذس مستر ناصر فون؟

- هاي... يس ذس إز ناصر... هو إز أُن ذا لاين؟

- أنا "بيترْ إبسنْ" (Peter Ibsen)، من شركة (...)، وقائد قسم الميكانيكا، لقد استلمت إميلا منك يحتوي على سيرتك الذاتية، وكنت أود أن أسالك إن كان يناسبك الغد لإجراء مقابلة شخصية لك...

- إنه مناسب تماما...

- إذا فلتكن العاشرة صباحا... هل هذا جيد؟

- نعم أنه جيد...

وصف لي المكان، وودعني، وأنهى المكالمة...

شردت وأنا أحاول تذكر شيئا عن الموضوع...

٭٭٭

الزمان: منتصف سبتمبر 2005

المكان: شقتي - مسقط

كنت جالسا في شقتي أتابع أحد الأفلام الأجنبية على جهاز (الدي في دي)، عندما دق جرس الباب، فتحت الباب لأجد صديقي وزميلي (خالد العلوي)، رحبت به، وجلبت له كأسا من عصير البرتقال، وجلسنا نتكلم في أمور العمل، وأمور الحياة بصفة عامة، في الفترة الأخيرة كنا-أنا وخالد- نتشارك فكرة واحدة، وهي ضرورة البحث عن عمل آخر وبأقصى سرعة، وذلك بعد أن سئمنا العمل في شركتنا الحالية، وبعد أن اقتنعنا بأنه ليس هناك أي مجال لنطور مهاراتنا في هذه الشركة...

قبل أن يهم بالانصراف، أخرج (خالد) من جيبه قصاصة من أحد الجرائد المحلية، وقال لي:

"لقد وجدت هذا الإعلان في جريدة اليوم، واعتقدت أنه سيثير اهتمامك"...

أخذت منه القصاصة وقرأت الإعلان... كان الإعلان يتحدث عن شركة استشارات هندسية عالمية، تعمل على مشروع ضخم في السلطنة، وتبحث عن مهندس تصميم "أنظمة تكييف وتهوية" (HVAC) وخبرة لا تقل عن سبع سنوات... قلت لـ (خالد):

"ولكن ليس لدي الخبرة المطلوبة"...

"أرسل سيرتك الذاتية فلن تخسر شيئا"...

وفي اليوم التالي قمت بإرسال سيرتي الذاتية...

٭٭٭

الزمان: بداية نوفمبر 2005

المكان: مكتب بيتر إبسن - مسقط

رحب بي (بيتر) بحرارة وشكرني على حضوري، ثم قادني إلى قاعة واسعة حيث مكتبه، سألني أن كنت أود أن أشرب شيئا، فأجبته أن بعض القهوة سيكون جيدا... أستأذن مني بأن يتأخر بضع دقائق ثم أنصرف...

كان (بيتر) يبدو في منتصف الخمسينات من العمر، طويلا، ذو شعر أشيب خفيف، وعينين زرقاوين تختفيان خلف نظارة طبية بدون إطار، والتي لم تنجح في إخفاء بريق الذكاء الذي يطل من عينيه... كان مكتبه عبارة عن طاولة يوجد على طرفها جهاز كمبيوتر محمول، وعلى الطرف الآخر هاتف مكتب، و يتوسطها ملفْ، ومسطرة، وحاسبة، وبعض الأوراق، كان المكان عبارة عن قاعة مفتوحة تغص بالمكاتب ويبدوا الجميع منشغلا...

عاد "بيتر" حاملا قدحين من القهوة، قدم أحدهما لي، ووضع الآخر أمامه، ثم بدأ يشرح لي عن المشروع، وما هم بصدده، وذكر لي بعض الأرقام والتي بدت لي مذهله حينها، تدل على ضخامة المشروع الذي تشرف الشركة على تصميمه، قاطعته عدة مرات لأستوضح بعض النقاط... ثم سألني متى أستطيع الانضمام للفريق؟

انتابني الاستغراب، من المفروض أنني في مقابلة، ولحد الآن لم أُسأل ولا سؤال!!، خطرت لي فكرة فقلت لـ (بيتر):

"أن كنتم تريدون توظيفي لرفع نسبة "التعمين" في الشركة، فأعتقد أنني لست الشخص المناسب لهذه الوظيفة، وأنا بصراحة لست مهتما بالمرة، لأنني إن عملت معكم فسأطالب ببعض المسؤوليات والصلاحيات"...

ابتسم (بيتر) وقال:

"لأكون صريحا معك، ليس عندي أي معلومات عن موضوع "التعمين" هذا، ولقد تم اختيارك للمقابلة بناءا على سيرتك الذاتية، ونحن فعلا راغبون لأن تنضم للفريق، وتصبح عضوا فعالا فيه، وأعتقد أنَّك ستكون ذا قيمة كبيرة للفريق كونك مهندسا عمانيا وتعلم الكثير عن المواصفات العمانية والخليجية، وأنا متأكد أننا سنتعلم منك الكثير"...

انبهرت بتواضعه الشديد، وابتسمت له قائلا:

"في هذه الحالة أظن أننا متفقان"...

"أذا سأرسل لك العقد بالإيميل، ونجتمع مرة أخرى لمناقشته"...

٭٭٭

الزمان: أواخر نوفمبر 2005

المكان: مكتب الشركة - مسقط

هذا هو يومي الأول في عملي الجديد، أعبر بوابة الشركة في تمام الساعة الثامنة صباحا حاملا كتابين في الهندسة الميكانيكية أستعملهما كمرجع، وآلة حاسبة، ومسطرة متعددة المقاييس...

أتوجه للاستقبال وأطلب مقابلة (بيتر)، فيأتي مبتسما بعد هنيهة فيرحب بي بلطف، ويقودني إلى مكتبي الجديد، ثم يسألني أن كنت مستعدا ليأخذني في جولة ليعرفني بباقي مهندسي وموظفي الشركة، يقدمني للجميع على إنني "المهندس العماني الجديد الذي نجح في ضمه للفريق مؤخرا"، أصافح عشرات الأيدي، بعضهم يطلق بعض النكات وهو أو هي يقدم لي نفسه و يشرح لي ماذا يعمل، يبدو أن الجميع مرح ولطيف هنا...

أنهي الجولة التعريفية لأجد أحدهم يعمل على توصيل كمبيوتر على مكتبي، ثم تم إعطائي إيميلا وكلمة مرور، يبدو أنهم أيضا سريعون ولا يمزحون هنا عندما يتعلق الأمر بالوقت، وإضاعة الوقت ليست من صفاتهم...

٭٭٭

الزمان: بداية نوفمبر 2006

المكان: الطريق من دوار اللولو والمؤدي إلى دوار الغبرة - مسقط

اليوم صحوت متأخرا بعض الشيء، أقود سيارتي بأسرع ما تسمح به زحمة الصباح لكي أصل المكتب في تمام الثامنة كالعادة، كان صوت فيروز ينبعث من مشغل الأقراص في السيارة:

"طيري يا طيارة يا ورق وخيطان... بدي ارجع بنت صغيرة على سطح الجيران..."

لا أرغب أبدا بأن أرجع ولدا صغيرا، ولكنني أقود سيارتي وكأنها طائرة نفاثة، أجتاز دوار اللولو فتبدو لي إِشارات دوار الغبرة خضراء...

"طيري يا طيارة يا...."

أضغط على دواسة الوقود، فتنطلق سيارتي كالطائرة، فأجتاز السيارات في مسار متعرج... الإشارات تتحول للون البرتقالي، ولكنني أيضا اقتربت كثيرا، ضغطت أكثر على دواسة الوقود... وفجأة قرر قائد السيارة التي أمامي أن يتوقف... لم تكن المسافة بيني وبينه كافية لأتوقف إلا بعد أن أزلت مؤخرة سيارته بمقدمة سيارتي... وما زالت فيروز تغني:

"..... بدي أرجع بنت صغيرة على سطح الجيران..."

أعتقد أنني لن أكون في المكتب في تمام الساعة الثامنة اليوم، تناولت هاتفي المحول واتصلت بـ (بيتر):

"صباح الخير (بيتر)، أعتقد أنني سأتأخر قليلا اليوم، لأنني تعرضت لحادث سير قبل قليل، سأنهي الإجراءات ثم آتي..."

"صباح الخير (ناصر)، أتمنى أن تكون بخير ولم تتأذى، خذ وقتك، وإذا كنت تحتاج أي مساعدة فأتصل بي... وشكرا لاتصالك بي"

"شكرا بيتر... باي"

"باي... اهتم بنفسك..."

٭٭٭

الزمان: منتصف ديسمبر 2006

المكان: مكتب الشركة - مسقط

أبعث إيميلا إلى (بيتر) أخبره فيه أنني لن أكون في المكتب في اليومين القادمين، حيث أنني التحقت بدورة للغوص تستغرق يومين فيجيبني بعد دقائق:

"عزيزي ناصر... استمتع بوقتك... أتمنى أنْ لا تصبح طعاماً لسمكة قرش جائعة... عد سالماً فلدينا الكثير من العمل الأسبوع القادم... تحياتي... (بيتر)"

٭٭٭

نلتقي بالكثير من الأشخاص في مراحل كثيرة من حياتنا، وقله هم الذين يتركون أثراً فينا، كان (بيتر إبسن) من هؤلاء القلة، كان قائداً يأسرك بتواضعه الشديد وابتسامته الدائمة، ويبهرك بعلمه وخبرته، ويثير إعجابك باهتمامه الشديد بكل فرد من أفراد فريقه، وعنايته بتطويرهم وجعلهم راضين عن أنفسهم وعن ما يحققون قي عملهم.

سأخبركم المزيد عن (بيتر إبسن) في تدوينة قادمة بإذن الله.

للمهتمين: جميع المعلومات المذكورة عن أسلوب القيادة الاسكندينافية مقتبسة من دراسة لـ إنجر بز (Inger Buus) المديرة السابقة للمعهد الدنمركي للقيادة وستجدونها على الرابط التالي:

http://www.mannaz.com/Mail.asp?MailID=54&TopicID=488

بحث هذه المدونة الإلكترونية