السبت، 10 أكتوبر 2009

الاحتباس الحراري والشنكانسن والسوشي في مشرق الشمس

هبطنا في مطار أوساكا الدولي (Osaka) بعد رحلة استغرقت 9 ساعات، وبعد أن أنهينا الإجراءات المعتادة توجهنا أنا و"صديقي اللدود" أو "عدوي الحميم" -الذي أرغمت على مشاركته في هذا المؤتمر، وأرغم على مشاركتي أيضا- إلى محطة المترو القريبة من المطار، طوال التسع ساعات الماضية لم آلو جهدا لإعادة المياه إلى مجاريها مع رفيق الرحلة ولكن كل محاولاتي لكسر الجليد باءت بالفشل، فقررت الكف عن المحاولة للأبد.....
عندما وصلنا، قمنا بشراء تذكرتين من آلة التذاكر الالكترونية، كل شيء هنا يدور بنظام ودقة متناهية، أنه مجمع هائل وليس مجرد محطة مترو، محلات عالمية، ركن للطعام تحتشد به عشرات المطاعم الفخمة والتي تذكرني بمحلات ستي سنتر في مسقط.....
أخذنا المترو إلى وسط مدينة كيوتو (Kyoto) حيث الفندق الذي سيقام به المؤتمر، وكان الفندق مريحا وجميلا جدا.
***
مدينة كيوتو (Kyoto)، المدينة التي كانت على وشك أن تمحى من الوجود بقنبلة نووية أثناء الحرب العالمية الثانية، لولا أن الولايات المتحدة استبعدتها من قائمة أهدافها في آخر لحظة..... والمدينة التي شهدت ولادة بما يعرف باتفاقية كيوتو أو بروتوكول كيوتو (Kyoto Protocol) والذي يهدف للحد من انبعاث الغازات الدفيئة والمسببة لظاهرة الاحتباس الحراري.
***
قبل هذه الأحداث بثلاثة أيام، استدعاني المدير إلى مكتبه وأخبرني أني سأسافر إلى اليابان لحضور مؤتمر دولي عن "الاحتباس الحراري والمصادر البديلة للطاقة المتجددة" (Global Warming and Alternative Source of Renewable Energy)، كما أخبرني أنه كان من المفترض أن يحضر المؤتمر اثنان من الزملاء، ولكن أحدهما أعتذر في اللحظات الأخيرة بسبب ولادة مولوده الأول وإصراره على البقاء مع زوجته للعناية بها....
لم أكن وزميل الرحلة على وفاق تام وبصراحة لا أذكر سبب ذلك الآن بالتحديد، ولكني أعتقد أن السبب هو دخولي معه في نقاش حول معضلة علمية خرجت منه فائزا على الصعيد العلمي، وخاسرا على الصعيد الاجتماعي....
من قال أن الخلاف في الرأي لا يفسد للود قضية؟؟؟....
***
كان الحضور في المؤتمر كبيرا، والمشاركين كانوا من جميع الدول تقريبا، كالعادة تم افتتاح المؤتمر بكلمة تقدم فيها أحد مسئولي الأمم المتحدة، التي بين فيها أهمية أن تتكاتف الدول لمواجهة تحدي الاحتباس الحراري، الذي بسببه ستغرق أراض كثيرة بسبب ذوبان الثلوج في القطبين وارتفاع منسوب مياه البحار، ووجه الشكر للدول التي استثمرت في الكثير من مشاريع الطاقة البديلة، كاستعمال الرياح أو المساقط المائية، ثم بدأ البرنامج الفعلي للمؤتمر، كل يدلي بدلوه في الموضوع، مستعرضين تقنيات جديدة لإنتاج الطاقة وآخر ما توصل إليه العلماء في هذا المجال.
كانت بعض المواضيع المطروحة مثيرة للاهتمام كتجربة ألمانيا وبعض دول شمال وغرب أوروبا لإنتاج الطاقة الكهربائية عن طريق طاقة الرياح باستعمال التربينات الهوائية (Wind Turbine)، أيضا مصر استثمرت الكثير من المال في مشروع عملاق يهدف لاستغلال قوة الرياح في الصحراء الغربية.
رغم جاذبية المواضيع إلا أنك سرعان ما تشعر بالملل في هذه المؤتمرات......
***
عندما بدأ رأسي يترنح وحتى لا أسقط نائما في المؤتمر، خرجت خارج القاعة لأجدد نشاطي وأحتسي كوبا من القهوة الساخنة، بينما أختار "صديقي اللدود" أن يقبع مستمعا ومستمتعا لبقية المحاضرة.....
***
بينما كنت أقوم بأعداد قهوتي، اصطدمت عيناي بعيني فتاة تبدو من ملامحها إنها خليجية كانت تقوم بأعداد كوب من الشاي بالحليب، ابتسمت لها محييا و قلت:
- سلام....لابد أنك مثلي تعانين من انخفاض مستوى الكافيين في دمك... ناصر من عمان....
- سلام.... مريم من البحرين....ثم بدأنا نتناقش عن آخر الأبحاث في مجال الطاقة البديلة في عمان والبحرين، ثم سألتني عن مشاريع الطاقة البديلة في عمان، فأجبتها مازحا:
- قريبا سننافس ألمانيا في عدد التربينات الهوائية....
سألتها نفس السؤال، فأجابت ساخرة:
- نحن بصدد تصدير الطاقة الكهربائية إلى إيران والسعودية.....
رغم جمالها الصارخ ولهجتها البحرينية التي تمط الكلام مطا بصورة فاتنة، بدت مريم شديدة الثقة بالنفس، ومن عينة الفتيات التي تفرض احترامها فرضا بشخصيتها المسيطرة والمستقلة، كنت قد أعتدت "ثقافة العيب" عند بعض الفتيات العمانيات، والتي تتلخص في "أنا محترمة... ولكي أثبت أني محترمة فلن أتكلم مع زملائي الرجال الأوغاد...."، كنت غارقا في هذه الخواطر حين سمعت.....
"مرحبا بكما في النادي"... جاءت العبارة من خلفنا فالتفتنا لنرى شابا قدم نفسه لنا مبتسما بمرح وود واضح:
- مشاري من الكويت، أعتقد أنكما تعانيان من نفس الشيء.... ملل المؤتمرات.....
كان مشاري يبدو كنجم سينمائي بوجهه الحليق وبذلة "فيرساتشي" التي يرتديها مع قلم "مونت بلانك" في جيب سترته....
بعد التعارف علمت أن مشاري حاصل على الدكتوراه في هندسة الطاقة من جامعة "جنوب كالفورنيا" في الولايات المتحدة ويعمل حاليا بمنصب مدير أول في الهيئة العامة للكهرباء، أما مريم فهي تعمل رئيسة لقسم الأبحاث والتطوير في وزارة الكهرباء البحرينية وحاصلة على ماجستير في الهندسة الكهربائية من المملكة المتحدة....
جلسنا نتناقش عن المؤتمر، كان مشاري متحدثا لبقا و موسوعيا، أبهرنا بمعلوماته القيمة، أيضا مريم لم تكن اقل براعة منه، ودخلا قي نقاش حول أهمية البحث عن مصادر بديلة للطاقة بالنسبة لدول مصدرة للنفط والغاز كالدول الخليجية، اضطررت لأقاطعهما عدة مرات لأذكرهما أن فترة الاستراحة قد انتهت وأن علينا أن نحضر بقية برنامج المؤتمر.....
اتفقنا أن نلتقي في تمام الساعة الخامسة مساءا في بهو الفندق....
***
في المساء اقترح علينا مشاري اكتشاف العاصمة طوكيو (Tokyo) و ختام السهرة بأكلة يابانية في مطعم شهير في وسط طوكيو..... تبعد طوكيو قرابة 500 كم عن كيوتو، فقررنا الذهاب اليها باستعمال القطار الطلقة أو الشنكانسن كما يسمونه باليابنية (Bullet Train or Shinkansen )، تتراوح سرعة القطار الطلقة بين 270 و 300 كم في الساعة مما يعني أننا سنكون هناك بعد ساعتين و نصف......
***
كانت السماء تمطر عندما ترجلنا من الشنكانسن (Shinkansen) في محطة طوكيو ولكن هذا لم يمنعنا من الاستمتاع بهذه المدينة الجميلة والمزدحمة، أكثر ما أعجبني نظام المظلات الواقية من المطر التي تستطيع استعارتها كلما انتهى الممشى المسقوف، على أن تضعها في صندوق مخصص كلما ابتدأ الممشى المسقوف مرة أخرى....
كان الوقت متأخرا ونكاد نموت جوعا فقررنا أن موعد العشاء قد حان، ولكن اكتشفنا أن ما معنا من يننات (Yens) غير كاف، واليابانيون لا يتعاملون بالدولارات هنا، أمضينا ما يزيد عن الساعة في البحث عن محل لتغير العملات ولكنها كانت جميعها مغلقة، أخيرا أخبرنا أحد اليابانيين أن بإمكاننا تغييرها في أحد الفنادق وقام بإرشادنا بكل لطف إلى موقع الفندق...
طبعا نسينا إرجاع المظلات عندما ابتدأ الممشى المسقوف مما اضطرنا للعودة مرة أخرى لإرجاعها.....
***
جلسنا القرفصاء ثلاثتنا، مريم ومشاري وأنا في المطعم، فقد قررنا أن نجرب العشاء الياباني وعلى الطريقة اليابانية.... أحضر لنا الموظف قائمة الطعام مبتسما ومرحبا بنا بانحنائه كبيرة، بعد نقاش اتفقنا أن نطلب وجبات مختلفة، طلبت مريم ساشيمي (Sashimi)، وطلبت أنا سوشي مع الأرز (Sushi)، أما مشاري فقد طلب طبقا من التشازوكي (Chazuke)، و زيادة في الانغماس في الجو الياباني قرر أيضا أن يطلب كأسا من الساكي (Sake)، خشيت أن يبالغ قليلا ويقرر أيضا أن يتقلد سيفا من سيوف الساموراي.....
كان أول تحدي لنا هو استعمال أعواد الطعام (Chopstick) والتي بدا مشاري بارعا في استعمالها بحكم أن هذه هي زيارته الثانية لليابان، أما أنا ومريم فقد عشنا لحظات عصيبة إلى أن نجحت أنا أخيرا في توصيل لقمة إلى فمي، وليتني ما أوصلتها!!!!!.... تحججت بأني نسيت غسل يدي، فقمت لأغسلهما، وما أن وصلت قرب المغسلة حتى أفرغت معدتي.....
رجعت إلى مائدة الطعام في نفس اللحظة التي نجحت مريم أخيرا في توصيل لقمة بنجاح إلى فمها، راقبتها وهي تتذوق اللقمة الأولى، وعندما شاهدت اشمئزازها ولأجنبها الإحراج أشرت لها إلى المغسلة أن كانت تود هي الأخرى أن تغسل يديها.....
خرجنا من المطعم جوعي عدا مشاري طبعا الذي التهم صحنه عن آخره، و أحتسى كأس الساكي حتى آخر رشفة.... لعنا أنا ومريم السوشي والساشيمي والساكي و كل الأكلات اليابانية النيئة ، كما لعنا مشاري ومطاعمه اليابانية.....
***
وصلنا كيوتو في وقت متأخر تلك الليلة فتوجهنا مباشرة إلى غرفنا بعد أن تمنى كل منا ليلة سعيدة للأخر، عندما وصلت غرفتي غيرت ملابسي، وغسلت أسناني، ورحت في نوم عميييييييييق.......
***
كنت جالسا في مكتبي الواسع ذي الأثاث الفاخر أحتسي القهوة وأقرأ ما تكتبه الصحف العمانية المحلية عن أفكاري العظيمة ومشاريعي الجبارة في مجال استعمال الطاقة المتجددة في سلطنة عمان، هناك جريدة تصفني بأنني "الرجل الذي حرر قطاع الطاقة في سلطنة عمان بعد أن كان مستعبدا من قبل النفط و الغاز"...... أنهي عملي مبكرا وأذهب للمنزل فالليلة سيسافر أبني إلى أمريكا في بعثة دراسية بعد أن وافقت وزارة التعليم العالي لأبتعاثة "بسبب أعمال والده الجليلة في خدمة الدولة" ورغم حصول أبني الحبيب على 55% في امتحان الثانوية العامة!!!!..... و.....
استيقظت مذعورا من أحلامي الجميلة على صوت المنبه معلنا يوما آخر.....
***
في نهاية المؤتمر أحسست بالخجل ، فنحن ليس لدينا أي تجربة حقيقية في مجال الطاقة البديلة، وأعتقد أن مسئولينا نيام عن هذا الموضوع، والذي بدأ يشغل بال العديد من الدول المتقدمة وحتى الدول النامية.
متى سنلحق بالركب؟؟ لو أننا قررنا توليد الطاقة الكهربائية عن طريق الطاقة الشمسية أو طاقة الرياح فذلك لان الدول المتقدمة قامت بذلك وليس لأن لدينا إستراتيجية واضحة تهدف إلى إنتاج طاقة نظيفة بنسبة معينة من أجمالي استهلاكنا للكهرباء، نحن أمة تقلد فقط وليست تتبع فكرها الخاص، أعتقد انه لو نفد النفط لرجعنا سنوات إلى الوراء، ولما وجدت مدننا الطاقة اللازمة لأنارتها...
***
في الفندق انتهيت من أعداد حقيبتي و اتصلت بالاستقبال لأعلمهم أني سأغادر متجه للمطار بعد نصف ساعة، ثم ذهبت لأودع مريم ومشاري، تبادلنا عبارات الوداع و بطاقات العمل، كما تبادلنا دعوات الزيارة عالمين أننا لن نلتقي إلا أذا التقينا في مؤتمر آخر....

بحث هذه المدونة الإلكترونية